رغم ما يحمله هذا السؤال من بساطة وسخرية، ورغم شعور بعضهم بأنه لا محل لطرح مثل هذا السؤال أصلاً، فإن هذا السؤال يفرض نفسه في الوقت الراهن بعد أن فقد العرب من المحيط إلى الخليج أوطانهم، وهانت عليهم أنفسهم قبل أن تهون عليهم أوطانهم، وزادت غربتهم، وضعف شعور الانتماء والولاء عند معظمهم حكاماً ومحكومين؟ وبات عليهم البحث عن مكان ليكون لهم وطناً·
والإجابة على هذا السؤال تحمل شقين، الأول هو ضرورة التعرف إلى مفهومنا لمعنى الوطن، أي ما هو الوطن بالنسبة إلى الإنسان العربي؟، والشق الثاني من الإجابة تكمن في العلاقة المتبادلة بين الوطن والمواطن، بمعنى ماذا فعل الوطن بالعرب؟ وماذا فعلوا هم بأوطانهم؟
يعيش العرب الآن في أنواع عدة مما يطلق عليها أوطان، بحيث يمكن أن نقسمها إلى الآتي:
(1) المكان الذي يولد وينشأ فيه الإنسان العربي، أي أنه مكان الولادة ومسقط الرأس، والذي ترعرع فيه من الطفولة إلى المنتهى، والمواطن هنا ينقسم عادة إلى نوعين، النوع الأول أن يكون مجبراً على العيش فيه لأنه لا يملك بديلاً آخر، فيتنازل عن كل متطلبات الحياة الكريمة والعيش بكرامة، ويقبل ''مكرمات'' الحكومة وتضحياتها لتوفر له ما يمكن أن يسد رمقه، وعليه أن ينفذ طواعية أو جبراً أوامرها، لأن العلاقة بين الطرفين ذات اتجاه واحد، فالحكومة تملك كل شيء، وتعرف كل شيء، وعلى المواطن أن يكون ليناً طيعاً حتى يحوز رضاها، والتذمر والاعتراض ليس لهما مكان في المجتمع، لذلك فإن الاستفتاءات والانتخابات تنفذ وفق إرادة النظام الحاكم· أما النوع الثاني فهو الإنسان الذي استطاع أن يتعايش مع النظام يفيد ويستفيد، فهو عين وأذن ويد النظام، ليس ضد أعداء الوطن بل ضد إخوانه من المستضعفين، وهو مستعد في كل الأوقات ليكون ''بلطجياً'' على أهله وجيرانه لوأد من تسول له نفسه منهم التعبير عما يعانيه·
(2) المكان المحتل، وهو المكان الذي يعيش فيه الإنسان العربي في ظل الاحتلال، وهو بدوره ينقسم إلى نوعين، الأول أن يكون المحتل أجنبياً مثل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجولان، والاحتلال الأميركي للعراق، هنا يشعر المواطن بالقهر في ظل مصادرة حقوقه كلها وانتهاك أعراضه والمساس بقيمه، ومن ثم يجد نفسه مسؤولاً عن تحرير الوطن وحماية استقلاله، فيهب لتلبية نداء الواجب بكل الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة· أما النوع الثاني من الاحتلال فيأتي من بعض الحكومات التي نصّبت نفسها أصحاب الوطن، وأن المواطنين ضيوف عليها، فتنتشر الديكتاتورية والاستبداد ويفتقد المواطن الأمن والأمان، وتصادر الحقوق والحريات، وتكون المصلحة الشخصية فوق الجميع، وتستباح حرماته ولا يستطيع أن يجأر بالشكوى لأنه في النهاية ضيف بلا وطن·
(3) المكان الذي يشعر فيه المواطن بأنه غريب، لأن المواطنين قلة وسط كثرة من الأجانب من كل صوب وحدب، عندها يفتقد الشعور بالهوية الوطنية، بعد أن اختزلت حقوقه، واخترقت خصوصيته، واندثر انتماؤه، ويزاحمه الغرباء في رزقه، وشاركه غيره في ثروات وطنه، ونازعه الآخرون في لغته وقيمه وعاداته، وبات يبحث عن موطئ قدم لسكنه ولأسرته ولسيارته، ومن هنا أصبح العيش في الوطن غربة فرضتها الظروف الاقتصادية والاجتماعية ومتطلبات التنمية الشاملة والحاجة الملحة لاستكمال بناء الوطن، فيجد المواطن أن عليه التعايش مع الظروف ويحاول أن يجد في الوطن وطناً·
(4) المكان الذي يعيش فيه الإنسان العربي بكرامة وكبرياء، سواء ولد أو كان مقيماً فيه، وهذا أمر نادر في العالم العربي، حيث يحترم القانون ويطبق على الجميع بلا استثناء، ولا فضل لحاكم أو محكوم إلا بقدر ما يقوم به من واجبات وما يتحمله من مسؤوليات لخدمة الوطن، إنه المكان الذي يشعر فيه الإنسان أن جميع حقوقه محفوظة ومصونة منذ أن يولد وحتى الممات، إنه الوطن الذي يبدأ فيه الإنسان من حجر أمه ويمتد ليتسع أرض وطنه، فهو الملاذ الآمن الذي تنتشر فيه الرحمة والعدل، وهو وطن غير موجود·
كل هذا يقودنا إلى الشق الأول من الإجابة على تساؤلنا: أين الوطن؟ أما الشق الثاني من الإجابة فهو العلاقة المتبادلة بين الوطن والمواطن، وهنا نجد أنها تنقسم إلى أقسام عدة تشمل الآتي:
(1) الانتماء حيث تكون العلاقة بين المواطن والوطن سوية، كل يقوم بما عليه من واجبات ويحصل على حقوقه كاملة غير منقوصة، وبالتالي يزهو المواطن بوطنه وبانتمائه وهويته دون حاجة لمناهج تربوية وتشريعات قانونية وأغانٍ حماسية تؤكد ذلك، وهنا تتغلب ''ثقافة الحياة'' على ''ثقافة الموت''، لأن الأوطان تحتاج إلى جهود الإنسان الحي، وهذا النوع من العلاقة بين المواطن ووطنه نادر وشحيح في العالم العربي·
(2) المنفعة حيث تكون العلاقة متبادلة بقدر ما يأخذ المواطن من مزايا مادية ومعنوية بقدر ما يشعر بانتمائه، فهي علاقة طردية كلما زادت المنفعة الذاتية زاد الانتماء والعكس صحيح، وهنا المقياس شخصي ولا يضمن الولاء لأنه سيكون لمن يعطي أكثر، فتتغلب ''ثقافة الاستغلال والانتهازية'' على ''ثقافة الانتماء